لقد جاء في الحديث القدسي
"أنَّ أكرم أولياء الله عز وجل عند الله مؤمن ذو حظٍّ من صلاة، أحسنَ عبادة ربه في السر، وكان غامضًا في الناس لا يُشار إليه بالبنان، وكان رزقه كفافًاً، وصبر على ذلك" ثم نقر- صلى الله عليه وسلم- بيده وقال "عُجِّلت منيته، قلَّ تراثه، قلَّت بواكيه".
الحديث القدسي هذا يضع لنا الأوصافَ والعلامات المميزة لأكرم الناس عند الله، ولأحب الناس إلى الله عزَّ وجل، وأولياء الله ليسوا هم الذين في الأضرحة ولا المقابر، أولياء الله حدَّدهم المولى تبارك وتعالى لنا فقال: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63 (يونس) فكل مؤمن تقي طائع لله عزَّ وجل هو ولي لله تبارك وتعالى.
هذه الأوصاف وهذه الصورة كيف يحققها المسلم؟! كيف نصل إلى هذه الدرجة؟! كيف يتحول المسلم إلى إنسانٍ ذي حظ من صلاة، ليس مصليًّا فقط، ولامؤديًّا لها، لا.. وإنما يستفيدُ منها، يقتطف ثمرتها، ويَجني من أدائها، خرج من صلاته وقد تزيَّن بزينة الإيمان ولباس التقوى وتخلَّق بخلق الإسلام، وتأدَّب بأدبه العام الكريم، فصارت أخلاقه حسنةً صار متواضعًا، صار مألوفًا، صار سهلاً محببًا، صار يُرغَب في جواره، ذو حظ من صلاة، استفاد من هذه العبادة من هذه الشعيرة العظيمة التي فرضها المولى تبارك وتعالى، استفاد منها، خرج منها بحظٍ كبير، ذو حظ ذو نصيب من الصلاة، فرقٌ كبيرٌ بين إنسانٍ يؤدي الصلاة مجرَّد أداءٍ وبين آخر يدخل في الصلاة فإذا به القريب من الله عز وجل، إذا به الحيي بين يدي الله، إذا به كثيرُ الدعاء كثيرُ الإنابة، كثيرُ الإقبال على المولى تبارك وتعالى.
كيف نصل إلى هذه الدرجة؟! ما الوسائل التي توصلنا أن نأخذ هذه الثمار من الصلاة؟! هذه واحدة..
الأمر الثاني في الحديث أحسن عبادة ربه في السر.. كيف يصل المؤمن إلى درجةٍ أنه يهمه ويشغله ما يُرضي الله، ما يُقربه من الله، لا يهمه أن يمدحه الناس أو أن يذمه الناسُ، هذه قضيةٌ سهلةٌ هينةٌ، رضا الناس أو غضب الناس هذا أمرٌ سهلٌ، إنما الذي يهم المؤمن رِضَا الله والذي يخشاه هو غضب الله، إذا رضي الله عنه فما قيمة سخط الناس، وإذا غضِب الله عليه ما قيمة رضا الناس، هذه مسألةٌ ينبغي للمسلم أن يقطع فيها؛ لذلك لا يقطع فيها إلا الإنسان صاحب البصيرة الذي يزن الأمور بموازينها الصحيحة.
ولذلك إذا رأيت إنسانًا يجوِّد أعماله في السر ويحسِّنها، ويتعمَّد دائمًا أن تكون جميع أعماله بينه وبين الله لا يحب الحديث عنها، ولا يحب أن يمدحه الناس فاعلم أنَّ هذا إنسانٌ وصل ما بينه وبين خالقه، وإذا رأيت إنسانًا آخر لا يتصدق إلا من أجل المظهر ولا يُصلي إلا من أجل المظهر.. فاعلم أن هذا إنسان ٌسطحيٌّ لم تخالط الإيمان بشاشةَ قلبه، وما زال بعيدًا عن هذه القضية وعن هذه الحقيقة، فالمسلم الحقيقي كما وصفه الحديث القدسي أحسن عبادةَ ربه في السر.
في بعض البلاد إذا قيل إنَّ فلانًا سيمرُّ في هذا الشارع يُنَظَّف الشارع، وتُغَطَّى الحفر التي فيه وتُبيَّض جوانبه، يا ناس.. أليس اللهُ أقربَ إليكم من فلانٍ ومن علاَّن وهو الذي يحاسب؟!
لكنها السطحية والبُعد، كثيرٌ من الناس من يُحسِّن عمله ويجوِّده، إذا كان ناظر المدرسة يراه أو سيمرُّ عليه المفتش أو في وظيفة، فإذا قيل إنَّ في هذا الأسبوع لا يوجد تفتيش ولا مرور فلا يهتم كأنََّه غافل عن صلته أو عن مراقبة الله عزَّ وجل له؛ ولذلك جاء في الأثر: "مَن عصاني وهويعتقد أني أراه فقد جعلني أقل الناظرين إليه" حديث قدسي ؛ لأنه إذا كان واحدٌ يسرق فرأى طفلاً فسيمتنع عن السرقة ويستحي..!!
إذا كان واحد على أي معصية وأحسَّ أنَّ عينًا ترقُبه امتنع عن هذه المعصية ورجع عنها، أفلا يعتقد هذا أنَّ عين الله تراه؟! ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه ِنَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (62سورة ق)
ولذلك فالفتاة التي قالت لها أمها: قومي- الفجر بدأ يطلع- اخلطي اللبن بالماء، قالت لها: إنَّ أمير المؤمنين قد أمر بعدم غش اللبن.. قالت لها: وأين أمير المؤمنين نحن في ظلمات الليل؟! قالت لها: إذا كان أمير المؤمنين لا يرانا فربُّ أمير المؤمنين يرانا، فكان عمر خارج البيت وسمع، وكان من نسل هذه الفتاة عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه وأرضاه.
الغلام أيضًا الذي مرَّ عليه عمر يختبره، غلامٌ صغير عبدٌ يرعَى غنمًا لسيده، قال له: اعطنا شاةً من هذه.. قال له: ليست لي، لا أملكها.. أنا حارسٌ عليها، قال له: قل لسيدك إنَّ الذئب قد أكلها، قال له إذا كان سيدي تجوز عليه هذه الحيلة وأقول له هذا الأمر فماذا أقول لله؟ إنَّ الله يراني ويطلع عليَّ أكثرمن سيدي!! فاشتراه عمر وأعتقته وقال له: "هذه الكلمة أعتقتْك في الدنيا وأرجو أن تعتقك في الآخرة بين يدي الله عز وجل".
"أحسن عبادة ربه في السر".. تُجوِّد الصلاة في الوقت الذي لا يراك فيه أحدٌ أكثر من تجويدها في الوقت الذي تكون فيه بين الناس؛ ولذلك كان أسلافنا- رضوان الله عليهم- الذين طبقوا هذا الأمر وعاشوه يتصدقون في السر، وجاء في الحديث "صدقة السر تُطفئ غضب الرب"، فكان الواحد فيهم يخرج بالزكاة أو بالصدقة يبحث عن فقيرٍ لا يعرفه، فكان يأتي إلى المسجدِ فيجد الفقيرَ نائمًا فيضعها تحت رأسه ثم ينصرف؛ لأنه فهم معنى إحسان العبادة مع الله عز وجل في السر بينه وبين الله.
قد ثبت في الحديث أنَّ الإنسان يعمل العمل فيُقبل عند الله؛ يعني العمل بينه وبين الله فيُقبل، ثم ما يزال الشيطان به حتى يتحدث عنه فيتحوَّل العمل ويُرَدُّ إلى صاحبه؛ لأنه تحوَّل إلى نوعٍ من الرياء ونوعٍ من المباهاه ونوعٍ من كذا وكذا.
"أحسن عبادة ربه في السر وكان غامضًا في الناس" بعض الناس يحب أن يُرى في مجلسه وأن يُسمع له.. إلخ
ليست هذه طبيعة المؤمن، طبيعة المؤمن كما وصفه صلى الله عليه وسلم في وصف المؤمنين "إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا"،
ويصف- صلى الله عليه وسلم- هذا الصنف "أولئك مصابيح الدجى" ينيرون في وقت الظلمة وفي وقت الشدة، أما موضوع أن يراك الناس وأن يسمعك الناس، وأن ينزل على رأيك الناس فلا، "كان غامضًا في الناس لا يُشار إليه بالبنان" لا يقال هذا فلان، إذا حضر لا يُعرف، هذه صفة أيضًا من الصفات التي إذا وُجِدت في إنسانٍ أحبه الله عزَّ وجل وقرَّبه".
وكان رزقه كفافًا فصبر على ذلك" بعض الناس إذا زاد الرزق تحوَّل إلى إنسانٍ راضٍ، وبمجرد ما يمر بأزمة أو بضيق ينقلب، وهذا الصنف من قديم، ومع النبي- صلى الله عليه وسلم- هاجر بعض الناس من ضعافِ الإيمان بهدف الدنيا.. المسلمون تركوا الدنيا وراءهم وهاجروا وهؤلاء يهاجرون من أجل الدنيا، فذهبوا إلى المدينة وأقاموا حولها، فكان الواحد فيهم يزن المسألة- يزن الهجرة- بالمادة، إذا نزل المطر ونبتت الأرض وأكلت الإبل ودرَّت اللبن قال: يا سلام!! هذا دين خير، ما أحسن هذا الدين!! لأنَّ فيه لبنًا ومطرًا ونباتًا، ورضي بهذا، وإذا لم ينزل المطر وبالتالي لم تُنبت الأرض وبالتالي لم تأكل الإبل- نياق- ولم يأتِ منها الولد قال: "ما رأيت شرًّا من هذا الدين"، فالميزان عنده المادة..!! ولذلك نزل فيهم القرآن في سورة الحج: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ (الحج: من الآية 11)
لم يتمكَّن منه الإيمان ولم يدخل الإيمان قلبه بعد، ما زال على عتبة الإيمان ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ (الحج: من الآية 11)
من ضيقٍ وشدة ﴿انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الحج: من الآية 11) صفة الذين يحبهم الله تختلف عن هذا، "وكان رزقه كفافًا فصبر على ذلك"، وكان أسلافُنا رضوان الله عليهم إذا أصبحوا وليس عندهم شيء لا يشكو الواحد منهم لأحد، بل يصوم ولا يتكلم في هذا الأمر،ولما سُئلوا عن ذلك قالوا: نخشى أن نشكو الخالق إلى المخلوق.. رضوان الله عليهم.
الصفات الأخرى في أحبابِ الله وفي أولياء الله أشار إليها- صلى الله عليه وسلم- بعد أن نقر بيده وقال "عجلت منيته"، يمرُّ بالدنيا مرورًا عابرًا هو من أهل الآخرة.. انظروا إلى جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه- أسلم، وهاجر إلى الحبشة، وجاء إلى المدينة، وخرج قائدًا في مؤتة، وهناك استُشهد بسرعة؛ ولذلك سمَّاه- صلى الله عليه وسلم- "إنَّ الله أبدله جناحين يطير بهما في الجنة"؛ لأن يمينه قطعت وقطعت شماله، وهو ثابت يحمل راية الإسلام، أسرع.. عُجلت منيته، قلَّ تراثه لم يكن جمَّاعًا للدنيا بمقدار ما كان معطاءً لها وحريصًا على منزلته ومرتبته في الآخرة.
"قلت بواكيه" سيدنا حمزه يوم أن استُشهد في أحد، قال- صلى الله عليه وسلم- "لكنَّ الحمزة لا بواكي له"، لا يوجد له بنت ولا ابن وأخت تبكيه، مات هكذا غريبًا فكان من أسياد الشهداء.. سيد الشهداء، هذه المراتب هذه المنزلة كيف نصل إليها؟! كيف نرتقي إلى هذه الدرجة ونصبح من المحظوظين في صلاتنا؟ وتصبح هذه الأعمال نعيشها ونحياها؟ ونصبح من الذين يرضى الله عنهم ويحبهم ويحبونه؟!
الطريق إلى هذا لا النسب ولا الحسب ولا الموطن ولا اللون ولا الجنس ولا البلد.. الطريق بين الله وبين عباده العملُ، والعمل الصالح والالتزام بالإسلام والقيام بحق هذا الدين، هذا هو الطريق يقول سيدنا عمر لسعد بن أبي وقاص- وهو ذاهب إلى قيادة المسلمين في المدائن-: يا سعد، يا ابن أم سعد، لا يُغرنَّك أن قيل صاحب رسول الله، وخال رسول الله، فإنَّ الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن.. جاء في الحديث: "الناس صنفان: مؤمن تقي كريم عند الله عز وجل، وفاجر شقي هين عند الله عزَّ وجل، ليس هناك بينهما أمر".
أيها المسلمون.. الإسلام، الإيمان، التقوى، والإحسان؛ هذه الدرجات الأربع لا تأتي جزافًا ولا بشهادةٍ علمية ولا بجامعة ولا بمدرسة ولا بمعهد، إنما تأتي بمسافة يقطعها القلب السليم، قلب مؤمن، قلب موصول بالله عز وجل، عمر- رضي الله عنه- سأل أبي بن كعب- رضي الله عنهم-: ما هي التقوى؟ عمر يسأل أحد الصحابة: ماهي التقوى؟ قال له: يا أمير المؤمنين، هل سرت في طريقٍ فيه شوك؟ قال: نعم. قال له: ماذا تصنع؟ قال: أحاذر خطاي وأجمع ثيابي لئلا يلتصق بها شيء، قال: فتلك هي التقوى،معنى مؤمن تقي أي محاسبٌ لنفسِه، هو محكمة مستقلة أمام نفسه يحاسبها ويعاقبها ويردها ويخاصمها إذا حادت عن طريق الله؛ لأنه إنسان يقظ موصول بالمولى تبارك وتعالى.
وقال علماؤنا: التقوى أن تعطي لله وأن تمنع لله، التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقايةً من الأعمال الطيبة والأعمال الصالحة، وكان أحد السلف- رضوان الله عليهم- كلما قرأ: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا(71 (مريم)
سأل نفسه ما الذي ينجيني؟! ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾كل المخلوقين..
كل بني آدم سيمرُّون فوق جهنم، مَن الذي ينجو؟! ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(72 (مريم) ننجي الذين اتقوا؛ فالتقوى هي التي تنجي.
صلى الله عليه وسلم فيقول: "رأيت رجلاً من أمتي، ورأيت النار قد احتوشته، فجاءت صدقتُه التي تصدَّق بها في الدنيا فحالَت بينه وبين النار ثمَّ مضى، رأيت رجلاً من أمتي يُكلِّم الناسَ ولا يكلمونه فجاءت رحمه- صلته لأبيه وأمه ولأهله- فقالت يا معشر المسلمين إنه كان وصولاً لأمه ولأبيه فكلِّموه فكلَّمه الناس" أيها المؤمنون، المؤمن نظرتُه بعيدة، لا يعيش للدنيا فحسب، إنه يعيش في الدنيا وقلبه معلق بالآخرة، بل الأسلاف ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)الذاريات) لماذا؟ ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18 (الذاريات) استعدادًا لما هو آتٍ ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: من الآية 64
أيها المسلمون، حقِّقوا في أنفسكم معنى الطاعة ومعنى التقوى ومعنى المراقبة ومعنى التواضع ومعنى الإخلاص لله عزَّ وجل، فهذا هو زادُنا، وهذا هوعِمادُنا بين يدي الله، وأكثروا من هذه المعاني من هذه الحقائق، وعيشوا عليها وبها،فالمولى تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)﴾ (القمر
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56 (الأحزاب.
من مقالة لفضيلة الشيخ: محمد عبد الله الخطيب (من علماء الأزهر الشريف وعضو جبهة علماء الأزهر)