حق الحرّية
الحرّية في واقعها هي ضدّ العبودية، والتحرّر هو التخلّص من القيود المكبلة للسيادة. لذلك، يقال عن العبد إذا انعتق من قيد عبوديته إنّه تحرر أي صار حرّا، ويقال عن البلد الذي انعتق من قيد الاستعمار إنه تحررّ. وهذا يفيد أن الحرّية حالة، صفة أو هيئة، يكون عليها الإنسان، تمكنه من ممارسة إرادته أي تحقيق سيادته.
وقد اعتبر الإسلام الحرّية حقا مستوجبا لكلّ إنسان، ونظر إليها كصفة من الصفات اللازمة له حتى تتحقّق كينونته وتمارس إرادته، فجعلها أساسا من أسس الأهلية المعتبرة في صحة التكليف ببعض الأحكام الشرعية، واشترطها في جملة من الأحكام كالحج، والزكاة والولاية، كما اعتبر الإسلام العبودية مانعا يمنع الإنسان من تحقيق كينونته المطلقة وسيادته التامة لما تفرضه من أهلية ناقصة تستوجب استثناءه من التكليف ببعض الأعمال والتصرفات؛ لذلك، عالج الإسلام مشكلة الرق التي كانت موجودة في كل المجتمعات، وشرّع جملة من الأحكام تؤدي إلى عتق الأرقاء جبرا واختيارا، حتى تمكن من إنهاء الرق في المجتمع وإعادة الإنسان إلى حالته الأولى الطبيعية وهي حالة الحرّية.وأمّا مفهوم الحرّية الذي اصطلح عليه العقل الغربي، فهو:" القدرة على الاختيار بين عدّة أشياء أي حرّية التصرف والعيش والسلوك حسب توجيه الإرادة العاقلة دون الإضرار بالغير أو دون الخضوع لأي ضغط إلاّ ما فرضته القوانين العادلة الضرورية وواجبات الحياة الاجتماعية".(1) وهذه هي المسمّاة عندهم بالحرية المدنية أو الحرية الاجتماعية، ولها أشكال مختلفة منها؛ حرية العقيدة، وحرّية التعبير، وحرية التملّك، وحرّية العمل وغير ذلك. وقد عرّفت في البند الرابع من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789م (سنة الثورة الفرنسية) كالآتي: " الحرية تعني القدرة على فعل كلّ ما لا يضرّ بالآخر. وهكذا فإنّ ممارسة الحقوق الطبيعية لكلّ إنسان غير محدودة إلاّ بالحدود التي تؤمّن للآخرين من أعضاء المجتمع التمتّع بذات الحقوق". والخطأ في هذا المفهوم يكمن في أنّ الحرية في واقعها هي الإنعتاق من القيود. هذا هو معناها المتبادر للذهن عند كلّ البشر عند إطلاق لفظ الحرّية. وهو المعنى الذي أراده المفكرون والفلاسفة في أوروبا أثناء نزاعهم مع الكنيسة؛ فلمّا طالبوا بحرية التفكير، أرادوا الإنعتاق من قيد الكنيسة وتعاليمها، ولمّا طالبوا بالحرّية السياسية والشخصية، أرادوا الإنعتاق من المفاهيم الكنسية الدكتاتورية المقيّدة للشخص. لذلك، فإنّ القول بأنّ الحرّية هي القدرة على الفعل دون الإضرار بالغير، أو القدرة على الاختيار دون الخضوع لأي ضغط إلاّ ما فرضته القوانين، يخالف واقع الحرّية. فكيف تكون الحرّية إنعتاقا من القيود وهي مكبلة بآلاف القوانين، وبقواعد مطاطة كعدم الإضرار بالآخر، وحفظ النظام العام وغير ذلك؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ قولهم الحرية هي القدرة على الفعل أو الاختيار، هو تعريف للإرادة وليس للحرّية. فالقدرة على الفعل ومنه الاختيار، هي الإرادة وممارستها هي السيادة، وأما الحرّية فهي حالة لتحقيق السيادة. فالعبد، له قدرة على الفعل لا يمارسها، فإذا انعتق من قيد العبودية أصبح في حالة تمكّنه من ممارسة إرادته أي قدرته على الفعل، وهي الحالة الطبيعية التي خلق عليها البشر. والحرّية، كحالة لتحقيق السيادة، من صفات الإنسان وليست من صفات فعله، لذلك لم يعتبرها الإسلام في وصف الأفعال ولا في بحثها واعتبرها في وصف الإنسان. وقد أخطأ العقل الغربي لمّا عمّم الصفة على الإنسان وفعله، فلم يميّز بين وصف الإنسان ووصف فعله وبحث العوامل المسيّرة له، فأطلق كلمة الحرّية كردّة فعل عن الواقع المرير الذي كان يكابده بمعنى انعتاق الإنسان وفعله من القيود. ولمّا تفطّن العقل الغربي إلى حتمية وجود ضوابط للفعل، أبقى اسم الحرّية كلفظة رنّانة تدغدغ الوجدان، وتخلّى عن معناه الحقيقي، وأوّل الحرية بأنّها الالتزام بالقانون، وأصبح المراد بكلمة الحرّية فكر الغرب ومفاهيمه، فالإنسان الحرّ هو الذي يتبنى العلمانية ويعيش وفق النمط الغربي في العيش؛ فهي بذلك ليست واقعا يقع عليه حسّ البشر، ويطابق حقيقة الفعل الإنساني، بل هي اصطلاح اصطلح عليه العقل الغربي فتخيله عند النظرية وتجاهله عند الممارسة أو هي – بتعبير وليام جيمس وسكينر – وهم ميتافيزيقي.
وعليه، فإنّ الحرّية حقّ للإنسان باعتبارها حالة طبيعية يوجد عليها الإنسان تمكنه من تحقيق سيادته، وليست صفة لأفعاله، ولا يجب أن تراعى حين التشريع والتقنين لأنها غير واقعية.